واحدة من المؤسسات التي دُكَّت دكًّاً، “بريد السودان”، حتى مقره الرئيسي والذي يعد واحداً من الآثار التاريخية ومعلماً عمرانياً في الخرطوم ضاع في غبار المجهول..
ورغم أن الدول المتحضرة -وحتى المتخلفة- تحتفظ بمؤسسة البريد للحاجة الماسة لخدماتها إلا أن عبقرياً هنا في السودان رأى أن زمن الرسائل ولى وراح، ظناً منه أن مهمة البريد هي بالتحديد التي غنى لها شعراؤنا، إيصال رسائل الأهل والمحبين وطالما أن الوسائط الحديثة وفرت مثل هذا التواصل وبأفضل منه سرعة ونوعاً فلا داعي لمؤسسة بريد السودان. أو ربما لأسباب أخرى أتركها لفطنة القاريء.
في دولتنا الحديثة؛ مؤسسة “بريد السودان” مهمة للغاية، فهي عظم ظهر “الحكومة الإلكترونية”.. يجب أن نبتدر خطة قومية شاملة لإنفاذ برنامج ضخم لنشر خدمات الحكومة الإلكترونية رأسياً وأفقياً.. وبالضرورة سيكون “بريد السودان” هو المؤسسة المسؤولة عن ضمان توصيل الوثائق والمستندات التي تنقلها شرايين وأوردة الحكومة الإلكترونية في الاتجاهين، من المواطن إلى الجهة مقدمة الخدمة، وبالعكس.
بالطبع لا أقصد أن يتولى “بريد السودان” تقديم الخدمة البريدية بالكامل وحصرياً، لا، سيكون هو الجهة المنظمة والضامنة للمستندات والوثائق المرتبطة بإجراءات حكومية.. بينما تتولى شركات خاصة تشغيل الخدمات.. مثلاً تجديد جواز السفر.. لا داعي للذهاب إلى مجمع خدمات الشرطة.. يمكن للمواطن باستخدام جهاز كمبيوتر أو أي هاتف ذكي الدخول والتقديم إلكترونياً عبر “بوابة السودان الإلكترونية”.. فيأتي مندوب إحدى شركات البريد السريع من المخوَّل لها استلام المستندات والوثائق المتصلة بإجراءات حكومية فيتسلم الجواز من البيت أو المكتب لتسليمه إلى مكاتب شرطة الجوازات التي تنجز العملية وتعيده بالطريقة ذاتها لصاحبه.
هذه العملية تحقق أكثر من هدف، أولاً تفتح فرص عمل كثيرة للشباب الذين توظفهم شركات البريد السريع أو مؤسسة “بريد السودان” مباشرة. وأهم من ذلك توفر وقت وجهد ومال المواطن الذي كان عليه ترك أعماله والذهاب إلى الجهة الحكومية مقدمة الخدمة.. وبالطبع يمكن تصور تأثير هذه الطريقة في تخفيف زحمة المرور، فشوارعنا ستتخلص من عدد كبير من السيارات التي كانت تغدو وتروح طلباً لخدمات وإجراءات حكومية ما أسهل التخلص منها.. الجهة الوحيدة الخاسرة، هم الشطار الذين يصرون على (تصوير جواز السفر) عند كل إجراء، ليس لأن الأمر مطلوب عملياً، بل لتشغيل ماكينات التصوير، فتخسر البلد مرتين، الأولى لتطويل الإجراء بلا داعي، والثانية بهدر الورق الذي نستورده من حر مال فقرنا المدقع بالعملة الصعبة.
أعيدوا “بريد السودان”، ومعه مقره المركزي (التاريخي) بشارع الجامعة!